فلسطين

كيف تم تمويل الاستعمار الصهيوني؟

كان التمويل عاملا حاسما في نجاح المشروع الاستعماري الصهيوني في فلسطين، وهو ما نجحت الحركة الصهيونية في توفيره عبر مجموعة من المؤسسات المالية.

future يهود يتجولون داخل مقبرة

لطالما رغبت الحركة الصهيونية في إنشاء دولة لليهود في فلسطين، وفي سبيل ذلك سعت إلى شراء الأراضي وتطويرها، وذلك بالتزامن مع تشجيع هجرة اليهود من جميع أنحاء العالم؛ لذا اهتمت بإنشاء المؤسسات الاقتصادية والمالية لتحقيق أهدافها الاستيطانية.

أولى هذه المؤسسات الاقتصادية هي الجمعية اليهودية للاستعمار اليهودي في فلسطين «بيكا»، والتي أُنشئت عام 1883 برعاية البارون اليهودي الفرنسي إدموند روتشيلد، الذي ساهم في المشاريع الاستيطانية الأولى بفلسطين خلال نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وذلك وفقا لما ذكره سعيد جميل تمراز، في كتابه «طرد الفلسطينيين في الفكر والممارسة الصهيونية 1882-1949».

هدفت «بيكا» إلى شراء الأراضي في فلسطين وإقامة مستوطنات يهودية عليها، وتمكنت حتى عام 1907م من إنشاء 12 مستوطنة بتمويل منها، كما عملت على تشجيع الملكية الفردية للأراضي الزراعية والعمل فيها، لأنها كانت ترى أن إيجاد طبقة من المزارعين ذوي الأملاك يعمل على تقوية حب المستوطنين الصهاينة للأرض ويزيد من تعلقهم بها.

يذكر إلياس شوفاني، في كتابه «الموجز في تاريخ فلسطين السياسي منذ فجر التاريخ حتى سنة 1949»، أنه رغم نجاحات «بيكا» المحدودة، إلا أن مستعمراتها ظلت تعاني من أزمة بنيوية تتلخص في عدم أهلية المستوطنين اليهود للعمل الزراعي، وبالتالي اعتمادهم الكلي على العمل المأجور، فأصبح هؤلاء -الذين قدموا لإنشاء دولة قومية- عبارة عن مقاولين لدى شركة «بيكا» الاستثمارية، يقومون بالرقابة على العمال العرب وبيع المحاصيل، تاركين العمل الجسدي الصعب لأبناء البلد.

أما أبناء هؤلاء المستوطنين، فلم يجدوا في الزراعة ما يُلبي طموحهم، فغادر عدد كبير منهم من المستعمرات إلى المدن، أو هاجروا من البلد إلى الخارج.

صندوق الائتمان اليهودي للاستعمار

من المؤسسات المالية التي لعبت أدوارًا مهمة في الاستيطان اليهودي بفلسطين، صندوق الائتمان اليهودي للاستعمار، الذي أعلن مؤسس المنظمة الصهيونية العالمية، ثيودور هرتزل، عن تأسيسه في المؤتمر الصهيوني الثاني عام 1898، وتوقع أن يُباشر الصندوق أعماله خلال عام واحد، وذلك حسب ما ذكره الدكتور أمين عبدالله محمود، في كتابه «مشاريع الاستيطان اليهودي منذ قيام الثورة الفرنسية حتى نهاية الحرب العالمية الأولى».

وبالفعل، تبنى المؤتمر الصهيوني الثالث عام 1899 قرار إنشاء الصندوق، وسُجِّل في لندن كشركة مساهمة محدودة، وخُصصت مائة سهم من الأسهم التأسيسية، والبالغ عددها مائتين، للجنة التنفيذية في المنظمة الصهيونية العالمية؛ وذلك لضمان سيطرة «هرتزل» ومؤيديه على الصندوق ونشاطاته.

تمثلت نشاطات الصندوق في إنشاء حركة تصنيع وإقامة شركات النقل والملاحة والتأمين، والاعتماد في هذا كله على اليد العاملة اليهودية، إضافة إلى ضمان الدعم المالي للمستوطنات اليهودية عن طريق القروض والكفالات والرهونات، ودعم شتى الأنشطة التجارية وإقامة بنوك ومصارف مالية في فلسطين وسوريا، وشق الطرق وإنشاء سكك حديدية.

غير أن المصرف لم يباشر أعماله جديًا حتى انعقاد المؤتمر الصهيوني الخامس في ديسمبر 1901، بسبب خلافات بين «هرتزل» ومؤيديه من جانب، وبين معارضيهم من الصهيونيين -خاصة الروس- من جانب آخر، حول كيفية استثمار الأموال المودعة في المصرف، حسب الدكتور أمين عبدالله محمود.

وفي عام 1903، أُنشئت شركة مصرفية تابعة للصندوق في يافا برأسمال قدره 40 ألف جنيه، وعُرفت فيما بعد باسم البنك البريطاني الفلسطيني «بنك أنجلو فلسطين ليمتد».

الصندوق القومي اليهودي

المؤسسة المالية الأخرى التي أُقِيمت في عهد «هرتزل» كانت الصندوق القومي اليهودي، وتُعرف أيضًا بـ«كيرن كايمت»، وأُنيط بها عدة مهام تهدف إلى تعميق جذور الاستيطان اليهودي في فلسطين وتقوية دعائمه، وذلك من خلال إرساء فكرة أن الأراضي وقف أبدي على الشعب اليهودي، ولا يجوز بيعها أو التصرف بها، وتنتقل بين المزارعين اليهود مقابل دفع أجرتها، ويجوز أن يكون الانتقال وراثيًا.

وحقق الصندوق هذه الفكرة من خلال تمويل شراء الأرض الزراعية في فلسطين ومحيطها، على أن تُسجل الأراضي المشتراة باسم الصندوق، باعتبارها ملكًا جماعيًا أبديًا للشعب اليهودي، ومنع بيعها، بجانب إتاحة الفرصة أمام اليهود، الذين لا يملكون شيئًا، في استئجار الأرض التي تعينهم وتشجعهم على الاستيطان، ومراقبة الأراضي واستغلالها واستثمارها، ومنع المضاربة في بيع الأراضي، كي لا يؤدي ذلك إلى زيادة أسعارها، بحسب الدكتور أمين عبدالله محمود.

وإلى جانب شراء وتمويل الأراضي وإقامة المستوطنات الزراعية عليها، أولى الصندوق اهتمامًا واسعًا بتمويل ورعاية الأبحاث والدراسات والبعثات. ففي عام 1905م، أرسل الصندوق بعثة من خبراء المياه والمناخ والجغرافيين والاقتصاديين؛ لدراسة الظروف المناخية والجغرافية لأرض فلسطين ومنطقة البقعة بالأردن، حسب ما ذكرته إلهام جبر سالم شمالي، في دراستها «الصندوق التأسيسي الفلسطيني ودوره في خدمة المشروع الصهيوني 1920-1948».

كما أنشأ الصندوق مدارس التدريب الزراعية، وأشرف على مشروعات التشجير، فقد نفّذ زراعة غابة هرتزل عام 1906 بأشجار الزيتون، وشق الطرق، وبنى بعض السدود، وساهم في تجفيف المستنقعات، وحفر الترع المائية، ونظم شبكات الري، وبنى المساكن العمالية، وغيرها من الأعمال التي ساعدت في تطوير المستوطنات الصهيونية، وجذبت المهاجرين الصهاينة.

مكتب فلسطين

في سنة 1908، اتخذت المنظمة الصهيونية العالمية خطوة حاسمة لتطوير نشاطها الاستيطاني، عبر إقامة «مكتب فلسطين» في يافا، كممثل للمنظمة وذراع تخطيطي وتنفيذي لنشاطاتها في فلسطين، بحسب إلياس شوفاني في كتابه المذكور آنفًا.

وتضمن نشاط المكتب: شراء الأراضي، وبناء المستعمرات، ومساعدة المهاجرين وتوطينهم ورعايتهم. ولأداء مهامه، أنشأ المكتب عدة شركات تحمل أسماء متعددة للتمويه على عملياته غير الشرعية.

وكان المدير الأول لهذا المكتب عالم الاقتصاد والاجتماع آرثر روبين (1876-1943)، الذي نجح في إقامة علاقات تعاون وثيقة بين المنظمة الصهيونية والمستوطنين القدامى والمهاجرين الجدد على أساس مبادئ العمل العبري، كما أرسى قواعد جديدة للاستيطان، وأدخل إلى المستعمرات عددًا من فروع الزراعة الجديدة، وساهم في إقامة مستعمرات جديدة على أسس تعاونية متعددة.

شركة شراء وتطوير الأراضي

كانت شركة شراء وتطوير الأراضي واحدة من المؤسسات الصهيونية المهمة، حيث اتُخذ قرار تشكيلها في المؤتمر الصهيوني الثامن الذي عُقد في لاهاي في أغسطس 1907، حين تمت الموافقة على مبادرة آرثر روفين، أحد قيادات الحركة الصهيونية، والرامية إلى تأسيس شركة تطوير الأراضي، التي سُجلت في 20 يناير 1909 برأسمال 50 ألف جنيه إسترليني، كي تكون العميل الشرائي الرئيس للصندوق القومي لليهود، بحسب إلهام جبر سالم شمالي.

وأخذت الشركة على عاتقها توسيع رقعة استملاك الصهاينة لأراضي فلسطين واستيطانهم فيها، وإيجاد الظروف الملائمة لاستثمار الأموال، عبر شراء قطع من الأراضي وتهيئتها للزراعة، وإنشاء مراكز لتدريب المهاجرين الصهاينة على الأعمال الزراعية والصناعية.

وتعاونت الشركة مع المؤسسات الاستيطانية الصهيونية الأخرى؛ لاستصلاح الأراضي لحساب الصندوق القومي اليهودي، ومن ثم توزيعها على المؤسسات والشركات، أو الأفراد الصهاينة عند الطلب؛ لإسكان المهاجرين وتأمين العمل لهم في المستوطنات الزراعية.

كما عملت الشركة على إقامة أحياء سكنية للصهاينة، فاشترت بعض الأراضي بالمدن الرئيسية في فلسطين، مثل يافا والقدس وحيفا، وأقامت عليها مستوطنات، بحسب إلهام جبر سالم شمالي.

صندوق تأسيس فلسطين

تضم قائمة المؤسسات المالية الصهيونية أيضًا صندوق تأسيس فلسطين، الذي كان أحد أهم مخرجات المؤتمر الاستثنائي الذي عقدته المنظمة الصهيونية العالمية في لندن عام 1920؛ لمناقشة التطورات السياسية التي شهدتها الساحة الدولية بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى 1914-1918، وإعلان وعد بلفور، واحتلال فلسطين، والشروع نحو إقرار الانتداب البريطاني على فلسطين.

وبحسب «شمالي»، أرادت الحركة الصهيوينة عقد المؤتمر؛ للوصول لهيكل مالي عام يخدم المشروع الصهيوني، فالصندوق القومي اليهودي كان مهتمًا بشراء الأراضي، لكنه لم يكن قادرًا على تنفيذ تلك المهمة بشكل كامل، لذلك كان لابد من البحث عن وسيلة أو مؤسسة مالية جديدة، ومن ثم استعانت الحركة بخبراء الاقتصاد الصهاينة في وضع مقترحات حول شكل الصندوق والأداة المالية المركزية التي تسعى لإيجادها.

وسُجِّل الصندوق بتاريخ 23 مارس 1921 بشكل قانوني ورسمي في سجل الشركات التجارية والمالية البريطانية، باعتباره شركة بريطانية مساهمة محدودة الضمان، ليس لها رأس مال أو سهم، وبقي مقره الرئيس في لندن حتى عام 1926، حين نُقِل إلى مدينة القدس وبدأ في ممارسة عمله هناك في أكتوبر عام 1927، وظلت فروع الصندوق قائمة في كثير من دول العالم، بهدف استمرار التواصل مع اليهود.

وتمثلت الأهداف العامة للصندوق، في القيام بكل النشاطات التي ستكون ضرورية وحيوية لتحقيق وعد بلفور، القاضي بتأسيس وطن قومي لليهود على أرض فلسطين، وكذلك طلب تحصيل التبرعات والقروض والتركات والهدايا وغيرها، والحفاظ عليها، وتوظيف تلك الأموال واستثمارها كلها أو جزء منها بشكل ملائم داخل فلسطين.

وتفرعت من تلك الأهداف العامة أهداف خاصة، منها شراء واقتناء وامتلاك أراضٍ في فلسطين بكل الطرق؛ لإعدادها وتجهيزها وتأهيلها للاستيطان، عن طريق تجفيف المستنقعات فيها، كي تصبح مناسبة للزراعة وتربية المواشي والدواجن والتجارة بها، وبناء محال ومخازن في فلسطين للاتجار في كل شيء، وبناء سكك حديدية وموانٍ، وإقامة مشاريع الري، وقطارات كهربائية، وتلغراف، وشق طرق، وفتح شبكة مواصلات برية وبحرية وجوية.

وتضمنت أهداف الصندوق أيضًا تطوير آلية المستوطنات الجماعية التعاونية، ومحاولة الحصول على الامتيازات من أي حكومة أو أي دولة في العالم، لتطوير الاقتصاد والتجمع اليهودي الصهيوني في فلسطين، وكذلك شراء الأراضي وبناء المصانع عليها لتشغيل العمالة اليهودية.

وتولى الصندوق أيضًا توفير الدعم المالي اللازم للشركات الصهيونية الداعمة للاستيطان، وتقديم الخدمات المهمة داخل المستوطنات اليهودية وبناء المرافق العامة بها. ومع مرور الوقت، قام الصندوق بشراء الأسلحة والذخيرة لليهود، وكل ذلك من أجل فرض واقع جديد على أرض فلسطين، كما ذكرت «شمالي».

سياسة «احتلال العمل»

يذكر تمراز في كتابه المذكور آنفًا، أن هذه المؤسسات ساهمت في تطبيق سياسة «احتلال العمل»، أي إقصاء اليد العاملة العربية عن المشروعات الخاضعة لإشرافها، وحصر استغلالها والعمل فيها بأيدي اليهود فقط، وأدت تلك السياسة العنصرية إلى تقييد نشاط العرب الفلسطينيين الاقتصادي، وتخريب مقومات الإنتاج الزراعي في أراضيهم، وانتزاع مصادر الرزق من بين أيديهم، حتى يضطروا للنزوح عن فلسطين، ولا يفكرون في العودة إليها في المستقبل، وتظهر وكأنها هجرة طوعية، ومن ثم إفساح المجال أمام إقامة المشروع الصهيوني.

# فلسطين # الصهيونية # الاستعمار

«معركة خلدة»: عن الهزائم التي تلد انتصارات
يحيى السنوار.. مات واقفاً
فيلم «المخدوعون»: فلسطين في مواجهة الرجال والشمس

فلسطين